إنّ السنّة النبوية بعد القرآن الكريم هي المصدر للتشريع، وقد سبق أنّ الخلاقة ـ بعد رحلة الرسول ـ حالت دون تحديث ما تركه بين الاُمة، وكتابته وتدوينه. فلم تدوّن السنّة إلى عصر أبي جعفر المنصور إلاّ صحائف غير منظّمة ولا مرتّبة إلى أن شرع علماء الإسلام في التدوين سنة 53 . 1
إنّ الحيلولة بين السنّة وتدوينها ونشرها أدّت إلى نتائج سلبية عظيمة منها قصور ما وصل إلى الفقهاء في ذلك العصر صحيحاً من الرسول، عن تلبية متطلّباتهم في مجال الأحكام. حتّى اشتهر عن امام الحنفية أنّه لم يثبت عنده من أحاديث الرسول في مجال التشريع إلاّ سبعة عشر حديثا.
نحن لا نوافق مع ما حكي عن النعمان ولكن نؤكّد على شيء آخر، وهو أنّ ما ورد في مجموع الصحاح والمسانيد والسنن الأعم من الصحيح والضعيف في مجال الأحكام الشرعية، لا يتجاوز 500 حديثاً، قال السيد محمّد رشيد رضا: إنّ أحاديث الأحكام الاُصول لا تتجاوز 500 حديثاً تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر. 2
ويقول أيضاً في تفسيره: يقولون انّ مصدر القوانين، الاُمة، ونحن نقول بذلك، في غير المنصوص في الكتاب والسنّة. كما قرّره الامام الرازي والمنصوص قليل جدّاً. 3
وما ذكره من قضية الامداد، يوحي إلى الموقوفات عن الصحابة من دون أن يثبت صدورها عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فهذه الموقوفات تعرب عن اجتهادات الصحابة في المسألة. ومن المعلوم انّ قول الصحابي لا يكون حجّة إلاّ إذا نسبه إلى الرسول .
هذا وأنّ الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفّى 852 جمع كل ما ورد في مجال التشريع في كتاب أسماه بلوغ المرام من أدلّة الأحكام 4 وهو كتاب صغير جدّاً .
إنّ افتقاد النص في مجال التشريع الّذي واجه فقهاء أهل السنّة بعد رحلة الرسول، هو الّذي دعاهم إلى التفحّص عن حلول لهذه الأزمة حتّى تسد حاجاتهم الفقهية فعكفوا على المقاييس الظنية الّتي ما أنزل اللّه بها من سلطان كالقياس، والاستقراء، والاستحسان، وسد الذرائع، وسنّة الخلفاء، أو سنّة الصحابة، أو رأي أهل المدينة إلى غير ذلك من القواعد وأسّسوا عليها فقههم عبر قرون متمادية، وقد جاء ذلك نواة لتأسيس علم اُصول الفقه بصورة مختصرة نمت ونضجت في الأجيال .
وأمّا الشيعة حيث إنّهم لم يفتقدوا سنّة الرسول بعد وفاته لوجود باب علم النبي، علي ـ عليه السلام ـ والأئمة المعصومين بين ظهرانيهم فلم تكن هناك أية حاجة للعمل بتلك المقاييس وبالتالي لم يكن هناك أي دافع للاتّجاه نحو اُصول الفقه .
نعم لمّا كان الإسلام ديناً عالمياً والنبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ خاتم الأنبياء، والاُصول والسنن مهما كثرت لا يمكن أن تلبّي بحرفيتها حاجات المسلمين إلى يوم القيامة، انبرى أئمّة أهل البيت إلى املاء ضوابط وقواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النص أو اجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات الّتي يواجه بها الفقيه. وتلك الاُصول هي الّتي تشكّل أساساً لعلم اُصول الفقه ولقد جمعها عدّة من الأعلام في كتاب خاص أفضلها الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة للشيخ المحدث الحر العاملي المتوفّي 1104 .
فلو تأخّرت الشيعة في تدوين مسائل اُصول الفقه فانّما لأجل ذاك الغنى الذي عرفت، ومع ذلك نرى انّ لفيفاً من صحابة الأئمّة درسوا بعض مسائل اُصول الفقه نظير:
والطابع السائد على هذه الكتب هو دراسة بعض المسائل الاُصولية كحجّية خبر الواحد، أو حل مشكلة اختلاف الحديثين أو نقد بعض الأساليب الرائجة في تلك الأجيال في استنباط الأحكام، كالقياس وغيره ولا يصحّ عدّها كتباً اُصوليّة بالمعنى المصطلح، نعم يمكن عدّها مرحلة اُولى، ونواة بالنسبة إلى المرحلة الثانية .
وأمّا المرحلة الثانية فقد امتازت، بالسعة والشمول، بادخال كثير من المسائل الأدبية والكلامية في علم اُصول الفقه وأوّل من فتح هذا الباب على وجه الشيعة بمصراعيه:
معلم الاُمّة الشيخ المفيد (336 ـ 413) فألّف رسالة في هذا المضمار وأدرجها تلميذه العلاّمة الكراجكي في كتابه كنز الفوائد. 13
وألّف بعده تلميذه الجليل علم الهدى المعروف بالسيد المرتضى كتابه القيم الذريعة إلى اُصول الشريعة طبع في جزأين، وقد رأيت منهانسخة مخطوطة في مدينة قزوين جاء فيها تاريخ فراغ المؤلّف منه عام 400 .
الشيخ الطوسي: (385 ـ 460) ألّف عدّة اُصول وطبع مرات، وعن طريق هذه الكتب، انتشرت آراء الشيعة في علم الاُصول .
ثمّ دخلت المرحلة الثالثة فقد اُلّف فيها كتب منها:
هذه هي المراحل الثلاثة إلتي مرّ بها علم الاُصول، وقد تلتها مراحل اُخرى إلى أن بلغت في القرن الرابع عشر ذروتها وقمّتها وبلغ أعلى مراحل كمالها، ويتّضح ذلك من ملاحظة ما اُلّف من عصر الاُستاذ الأكبر المحقق البهبهاني (1118 ـ 1206) إلى يومنا، فقد راج التحقيق في المسائل الاُصولية من عصره إلى عصر الشيخ مرتضى الأنصاري (1212 ـ 1281) وعصر تلميذه الشيخ محمّد كاظم الخراساني (1255 ـ 1329) ففي هذه الفترة: أي القرون الثلاثة، اُلّف مئات الكتب والرسائل في ذاك المجال، ولا اُغالي إذا قلت: انّه لم تبلغ طائفة من الطوائف الإسلامية تلك الدرجة الّتي وصلت إليها الشيعة في علمي الفقه والاُصول من جانب كثرة الانتاج والاستيعاب ودقه النظر، شكر اللّه مساعيهم. 14