أبحاث ودراسات

...

 السيد محمد حسين فضل الله   

إرث الأرحام.. بين الفقهين السّنيّ والشّيعي

استدلّ الإمامية على بطلان التعصيب بقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً}(النّساء: 7).

وقد ذكروا في تقريب الاستدلال بها، أنَّ الآية قد ساوت بين الذّكور والإناث في استحقاق الإرث، لأنها جعلت لكلِّ منهما نصيباً مما ترك الوالدان والأقربون، في حين أن القائلين بالتعصيب قد فرّقوا بين الرجال والنساء، فورّثوا الرجال وتركوا النساء، حيث التزموا صورة ما لو كان للميت بنت وأخ وأخت، بأنّ البنت تأخذ النصف المفروض لها، والنصف الآخر للأخ، ولا شيء للأخت، مع أنهما متساويان في الدرجة، كما التزموا بأنّه لو كان للميت أخت وعمّ وعمّة، بأن التركة للأخت وللعمّ، ترث نصفها الأخت بالفرض، ويرث العمّ نصفها بالتعصيب، ولم يجعلوا للعمّة شيئاً، مع أنها شقيقة العمّ وفي رتبته.

وقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنَّ الميت إذا ترك بنتاً أو بناتاً، ولم يوجد واحد من أصحاب الفروض والعصبات، فالمال كلّه للبنت؛ النصف بالفرض، والباقي بالردّ، وكذلك البنتان تأخذان جميع التركة، الثّلثين فرضاً والثلث الباقي رداً، مع العلم بأنّ الآية قالت: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}. فإذا كانت الآية تمنع أن تأخذ البنت أو البنات جميع التركة في هذه الصّورة، فكذلك لا تمنع أن تأخذ البنت أو البنات التركة كلها في صورة أخرى، لأن الصورتين ترجعان في حكم الردّ إلى قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [الأنفال: 75]، و[الأحزاب: 6]، حيث دلّت على أنَّ الأقرب أولى ممن هو دونه بالقرابة، وليس من شكّ أنّ البنت أقرب من الأخ، والأخت أقرب من العمّ.

وفي ضوء ذلك، تبطل حجة القائلين بالتعصيب بالآيتين {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، وقوله تعالى: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ}، فقد قالوا: إنَّ القرآن في الآية الأولى أعطى النصف للبنت والثّلثين للبنتين، وفي الآية الثانية، أعطى النصف للأخت والثلثين للأختين، فإعطاؤهنّ التركة بكاملها ـ كما يذهب الإماميّة ـ مخالفٌ لصريح القرآن.

ويقول الإماميّة في الردّ، إنَّ القرآن لم يتحدَّث عن النصف الآخر أو الثّلث الآخر، ولم يذكر الوارث الذي يستحقّ الباقي، ولم تتعرض السنّة النبويّة لذلك، إلّا ما كان من حديث طاوس اليماني الذي لم يعاصر النبيّ محمداً(ص) ولا أدرك الصحابة، ولو كان الحديث صحيحاً، لرواه أكثر الصّحابة في جملة ما رووه من التّشريعات، ولا سيّما أنّ هذا الأمر مما يكثر فيه الابتلاء، لاتّصاله بحياة الناس بشكل عامّ. ولذلك، فلا بدّ من الرجوع إلى القرآن لتحديد صاحب الحصّة الأخرى، وليس هناك إلّا آية {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ}.

وهناك ملاحظة أخرى في إضعاف حجّة أهل السنّة، وهي أنَّ أصحاب المذاهب الأربعة ـ الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية ـ قد اتفقوا على أنّ الميت إذا ترك أباً وبنتاً، كان للأب السّدس بالفرض، وللبنت النّصف بالفرض أيضاً، والباقي يردّ على الأب وحده، مع أنه من أصحاب الفروض، بمقتضى الآية {وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، فإذا كان الفرض لا يمنع من ردّ الباقي على الأب ـ كما يدَّعون ـ فينبغي أن لا يمنع من الردّ على البنت.

وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنَّ الميت إذا ترك أمّاً وليس معها واحدٌ من أصحاب الفروض والعصبات، تأخذ التركة كلها؛ الثّلث بالفرض، والثلثين بالرد، مع العلم أنّ الله يقول: {فَلأمِّهِ الثُّلُثُ}، فإذا جاز للأمّ أن تأخذ التركة كلّها مع قوله تعالى: {فلأمِّهِ الثُّلُثُ}، جاز أيضاً للبنت أن تأخذ التركة كلّها، وكذلك البنات مع قوله تعالى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}.

وخلاصة الفكرة، أنّ فقهاء السنّة لم يعتمدوا إلّا على رواية طاوس اليماني التي لا تثبت أمام النقد الحديثي، فلا يعود لهم حجّة على التعصيب، كما أشرنا إليه، وتمام الكلام موكول إلى الفقه.

{وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...} اّتفق المسلمون على أن حصة البنت الواحدة بالفرض هي النّصف؛ أما النصف الآخر، فلم يتحدّث عنه القرآن بصراحة، كما لم يتحدّث عن الثلث الباقي بعد أخذ حصّة البنتين أو البنات. وقد اختلف رأي الشيعة الإماميّة مع رأي أهل السنَّة، فذهب فقهاء الإماميّة إلى إعطاء النصف الآخر للبنت، انطلاقاً من الآية الكريمة التي وضعت القاعدة العامّة لإرث أولي الأرحام: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [الأنفال: 75]، حيث أفادت أنّ الأقرب يمنع الأبعد في كلّ طبقة، ما يجعل الحصة للبنت دون غيرها لأنها الأقرب؛ وقد أقرّ فقهاء أهل السنّة هذا الحكم بشكل جزئيّ في مورد انعدام العصبة للميت، فجعلوا التركة كلّها للبنت، ما يوحي بأنّ المبدأ واردٌ من حيث الأساس. [من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 7، ص 116].

*ملاحظة : (التّعصيب معناه الإحاطة بالشّيء، وعَصَبَة الرّجل: بنوه وقرابته لأبيه، وإنَّما سمّوا بذلك لأنّهم أحاطوا به، والمراد به في كتاب المواريث، توريث ما زاد مما تركه الميت من السّهام لبعض قرابته، وهم: الأب والابن ومن يرتبط بهما من غير ردّ على الورثة الّذين حدّد لهم الشرع حصصاً معيّنة) .